أذا كانت الألفية الثالثة فرضت نفسها كمفصل تاريخي في حياة الأمم والشعوب ، للوقوف أمام أوضاعها وتطلعاتها وأزماتها وبرامجها للنهوض البنيوي نحو المستقبل ، فإن العرب دخلوها كما يدخلون غرف النوم ، دون بذل أي جهد لإعادة طرح الاسئلة التي تمس ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا ، دون أن ينشغل أحدا بمجرد التفكير مليا بمفردات أضحت مطروحة بشدة في مختلف الدوائر الرسمية والشعبية والحزبية ، على سبيل المثال لا الحصر ، هل حققنا للإنسان العربي حياة تليق بكرامته وطموحه ؟ هل ارتقينا -او بدأنا- إلى مستوى الأمم المتطورة ؟ هل استعدنا حقوقنا المسلوبة ؟ هل بنينا قاعدة صناعية ؟ هل اجرينا تحسينات جذرية على مناهج التعليم ؟ هل اصبحنا نولي أهمية لصناعة الإنسان والمراهنة عليه لبناء المستقبل ؟ وتتسع دائرة الاسئلة لتشمل كافة مفاصل الواقع العربي الراهن .

هل ماحصل في تونس ويحصل في مصر هو حقا ردات فعل عفوية ؟ هل هي وليدة اللحظة ؟ بظني أنه من الصعوبة بمكان فهم مسببات ماحصل دون ملامسة الواقع ، فالرؤية التي تتحلى بالموضوعية وتستند إلى البحث العلمي ، وليس إلى أدوات النرجسية والذات في تناول الواقع العربي ، ستقودنا إلى الإعتراف الصريح والواضح ، بأن هدا الواقع يعيش حالة الهزيمة الشاملة ، التي لم يعد معها مقبولا استمرار الأوضاع كما كانت عليه ، الهزيمة بكافة تجلياتها أمام الآخر ، وأمام الذات المتخلفة والمتحصنة بأنانيتها وضعفها ، تلك الهزيمة التي تلقي بظلالها على الحالة العربية حكاما وشعوبا ، معارضة وموالاة ، نخبا وجماهيرا ، اقتصادا وسياسة ، أدبا وفنا وقيما ، حيث يكاد وشم الهزيمة يرتسم على جسد الأمة بأسرها .

وفي هذا لا أعني بالهزيمة الإنكسار العسكري أمام الجيوش والآلة العسكرية الغربية فحسب ، إنما أعني المفهوم الأشمل والأعم ، الكامن قبل الظاهر ، أي العجز والتخلف وفقدان الرؤية ، والمسافة الحضارية بيننا وبين الآخر .

أيضا الاستجابة لشروط وضغوط القوى الطامعة في سلب إرادة الأمة العربية ومواردها ، والطرف الآخر يعلم أن الهزيمة العسكرية لاتكتمل إلا بهزيمة سياسية ، ولايتكرس الإثنان إلا بهزيمة الثقافة والإرادة وروح المقاومة ، أي أن تصبح الهزيمة فكرية كاملة ونهائية .

إن هذا المفهوم يطال الحالة المعنوية والسلوكية للإنسان العربي ، وكذلك يطال البنى السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية ، وبنية القيم واندحارها أمام قيم الآخر وطغيانها ، وليس هناك أشد وأقسى من الإعتراف بالهزيمة ، لأنها تحمل في معناها ضعف الذات ، بيد أن الهزيمة هي نتاج موضوعي ساهمت الذات في تكوينه ولايجوز إدارة الظهر له ، فالإعتراف بالهزيمة نقطة تحول إيجابية ، بينما تصوير الواقع عنوة انتصارا هو نقطة تراجع ، وعبور الهزيمة لايبدأ إلا باستيعاب دروسها .

أولا- الحالة الراهنة للإنسان العربي الذي يكابد مفاعيل الإحباط بالسلوك والفعل اليومي الذي لايدل على عافية وتماسك ، فنراه تارة يلجأ إلى اللامبالاة والإنكفاء على الذات هربا من واقعه المرير الذي هزم آماله واحلامه الوطنية والإنسانية ، حيث فقد الثقة بحكامه وقياداته ومرجعياته ومؤسساته المجتمعية ، وتحول إلى إنسان مسكون بالتيه والقلق ، يعتمره صراع داخلي بين الإحباط والإستكانة ، والتمرد والعناد ، بين علياء التاريخ وأحلام الوطن ، وبين واقع قطري بغيض ، وحاضر ذليل تغيب فيه العزة والهوية عن الأمة ،بين إدراك عوامل القوة الكامنة ومظاهر الضعف الظاهرة ، فقد تم تعطيل أدوات الإرسال لدى المواطن العربي ، وأصبح مهيئا فقط للإستقبال والتلقي ، فإذا رفعت رايات اللإشتراكية طلب منه أن يعلن أن الإشتراكية من الإسلام ، وأن النبي (ص) هو الإشتراكي الأول في التاريخ ، وإذا انقلبت الآية وظهر عصر الإنفتاح فإن الإشتراكية تصبح كفرا ، وإن حرمة مال المسلم هي الغاية ، وإذا تصاعدت حدة المواجهة مع إسرائيل أصبح الجهاد واجبا مقدسا ، وبات الصلح محرما على كل مسلم ومسلمة ، وإذا سعى البعض للصلح انطلقت حمامات السلام من فوق المنابر ، وأصبح شعار الجميع أن أدخلوا في السلم كافة !! وإن حل أسبوع النظافة انطلقت الحناجر مرددة أن النظافة شطر الإيمان ، وإن حل أسبوع المرور تحول الإرسال إلى موجة أخرى تشدد على ضرورة السير في يمين الطريق لأن أصحاب اليمين هم أهل الجنة .

تلك الثنائيات في الواقع العربي المأزوم إما أن تدفع المواطن العربي بإتجاهات مختلفة للفعل السلبي خارج دائرة المصلحة الوطنية والقومية ، كنشاط بعض الحركات الإسلامية العنفية في بعض البلدان العربية ، وإما بإتجاه هجرة الواقع والإنخراط في صفوف الفصائل الأفغانية على سبيل المثال لا الحصر لنصرة الإسلام ، في حين أن نصرة الإسلام تستدعي النضال ضد الغزوة الصهيونية لتخليص القدس من رجس الإحتلال ، وقد يهجر المواطن دوائر الفعل الوطني والإبتعاد عن الإهتمام بما يجري ، والغرق في هموم وموجبات الحياة المعيشية .

ثانيا- مكابدة الإنسان العربي لتبعات الجوع والفقر وضنك الحياة ، والتهميش ونسب الأمية المرتفعة ، وضعف الرعاية الصحية ، وإزدياد التفاوت الطبقي والحضري داخل القطر الواحد ، ويزداد الوضع سوء حين تغيب الحريات العامة وتغيب الديمقراطية السياسية والإجتماعية في مؤسسات المجتمع العربي ، وتسود قوانين الطوارئ بإسم الدفاع عن الوطن ، ويُمارس القمع والإرهاب وتكمم الأفواه ويتم إغتيال الكلمة الجريئة ، ويتحول الإعلام إلى أداة لتمجيد الأنظمة ، ولايمكن بالطبع فهم هذه العناوين والمفردات إلا بكونها تجليات لأبعاد الهزيمة بمعناها الأشمل ، والتي صنعها الحكام المعولمين ، وبوصفها دليل حقيقي على غياب أية مقومات تشير إلى نهضة في الواقع العربي .

ثالثا- تجليات الهزيمة اقتصاديا في المنحنى الهابط لمستويات التنمية والتطور التكنولوجي والصناعي ، ولعل المقاربة الموضوعية بين مستويات التنمية في الدول العربية وبين الدولة العبرية التي لم يمض على نشوءها أكثر من ستون عاما تفضح بجلاء عن حجم المفارقة والهزيمة ومظاهرها ، فالناتج القومي لإسرائيل يصل الى 100 مليار دولار ، في حين أن الناتج القومي لاربعة دول عربية محيطة بها لاتصل إلى هذا الرقم !!

رابعا- ماتتعرض له الأرض العربية من إغتصاب وتشويه منذ قرن من الزمن وحتى يومنا هذا ، إحتلال فلسطين وتهويدها ، احتلال العراق ومصادرة مقدراته ، احتلال أراضي عربية أخرى ، نسيان أراضي أخرى ، تقسيم السودان ، نشوء محميات لاتمتلك مقومات الدولة السياسية ، التشجيع على تقسيم دول أخرى ، تكون قطريات عربية ترسخت جذورها في الفكر العربي وعاجزة عن حماية كيانها ومعرضة لتدخلات الأجنبي المستمرة ، سقوط معظم الصيغ السياسية القديمة وعدم مقدرتها على تكوين صيغ للمستقبل ، وعجز المشروعان الماركسي والقومي بالصيغ والشعارات والأدوات وبالشكل الذي قدمت فيه هذه الأفكار .

وإذ جاز لي التحدث عن مظاهر الهزيمة ، فالإجازة أيضا تستوجب رؤية ماحصل خلال الأسابيع القليلة الماضية في تونس ومايحصل الآن في مصر من تحرك شعبي وغضب جماهيري تجاوز بعفويته وإصراره كافة شعارات حركة التحرر العربية وأحزابها التي تكلست مفاصلها كما تكلست برامجها وأصيبت بموت سريري منذ زمن .

هذه الإنجازات التي حققتها الجماهير التونسية والمصرية تؤكد على أهمية رؤية مظاهر الممانعة ، وأن في هذا مظاهر قوة وإضاءات دالة على إمكانية النهوض ، كما تستوجب من جديد طرح السؤال ، كيف نعبر الهزيمة ؟ كيف نغير الواقع بمعطياته القاسية التي تلفنا وتحيط بحياتنا من كل اتجاه ؟

بظني أن ثمة شروط عديدة لمواجهة هذا الواقع لايمكن حصرها ، خاصة وأننا مازال أمامنا الكثير لنتعلمه من التجربة التونسية والمصرية التي نأمل أن يكتب لها النجاح في تحقيق غاياتها ، إنما الأمر يحتاج إلى رؤية غارقة في المستقبل وكيفية تكوينه ، باحثة عن شروط بناء وتنمية الإنسان العربي ليكون هو سيد نفسه وصانع مستقبله .

ورغم إدراكي أن هذه المنهجية أمرا غير ميسرا في بلداننا العربية ، بيد أني أرى أن هناك جبهة ثقافية أكاديمية عريضة من نخب وأفراد مازالت عصية على الذوبان في مجرى الهزيمة وظلالها ، وقادرة على منع تحول هذه الهزيمة من مجرد مظاهر ومؤثرات عابرة إلى حالة كلية في الجوهر .

مايضفي أهمية على هذا الجانب أن الثقافة بمعناها الواسع هي الأكثر إستهدافا بالذات بعد أن تعرضت الجبهات الأخرى إلى الإختراق والتراجع ، وباعتبار أن الثقافة تمثل الجبهة الخلفية والعمق الحقيقي لقدرة وإمكانية أي شعب على الصمود والإستمرار .

حتما مازال الواقع العربي بمساحاته الإجتماعية والإقتصادية يحتاج إلى دور المثقف الوطني وإلى رسالة جميع الأكاديميين العرب الذين لاتزال تسكنهم حياة وهموم الأمة ، إذ يتحتم عليهم اليوم أن يعاودوا طرح الاسئلة الأساسية كما فعل مثقفوا عصر النهضة .

هذا التحدي هو الأخطر والأهم في تاريخ المرحلة ، لأن على ضوء هذا التحدي سيتحدد إما أن تكون الجبهة الثقافية احتملت الصدمات ، وبالتالي استطاعت شعوب المنطقة استعادة حقوقها المنهوبة ، أو أن تكون مثل الجبهات الأخرى ضعيفة ولابد أن تسقط ، وإن حصل ذلك - لاسمح الله- قد يسقط كيان الأمة .