استعمل النفط العربي كسلاح لأول وآخر مرة في تاريخ حروب الأمة العربية ضد أعدائها في حرب أكتوبر/تشرين أول عام 1973 التي حصلت بصورة رئيسية بين سورية ومصر من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى. جاء استعمال النفط كسلاح اقتصادي مؤثر كرد  فعل على التحيز الكامل لأوربا وأمريكا إلى جانب الكيان الصهيوني المسخ في تلك الحرب وكذلك للضغط على العالم لاتخاذ ما يمكن اتخاذه من تدابير وإجراءات لإجبار الكيان الصهيوني على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلت في حرب عام 1967، التي هزمت فيها الجيوش العربية أشد هزيمة، وأيضا لإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية.

بعد "وقف إطلاق النار" و"فك اشتباك" الجيوش العربية والصهيونية خصوصا على الجبهة المصرية بدأت فترة ما يسمى حالة اللاسلم واللاحرب المعروفة. خلال تلك الفترة لم يجلس حكام صهيون وأقطاب الإمبريالية الأمريكية ساكني الأيدي والأفكار- كما كان يعمل الحكام العرب الخونة الأذلاء الذين تعودوا على حالة الانبطاح على البطون- بل أخذوا يخططون لاستيعاب سلاح النفط وتحيده والسيطرة عليه واستخدامه كسلاح قاتل  بأيديهم للانتقام من العرب والسيطرة على مقدراتهم وإذلالهم، ومن ثم بسط نفوذهم من خلال استعمال خيرات العرب للسيطرة على وتوجيه الاقتصاد العالمي والضغط على البلدان المستهلكة للطاقة حيثما وأينما شاءوا من خلال الابتزاز والضغط السياسي عليها.

بعد حرب 1973 جاء دور السفاك الاقتصادي الأمريكي- وكما تحدثنا عنه في مقالات سابقة، الإمبراطورية الاقتصادية الأمريكية العالمية ، السفاك الحربي والسفاك الاقتصادي وجهين لعملة واحدة – لخداع وترويض حكام الدول العربية النفطية خصوصا "السعودية" و"الكويت" ودول خليجية أخرى وربط تلك الدول بمعاهدات واتفاقيات مذلة طويلة الأمد غايتها السيطرة على السيولة النقدية من عائدات النفط وتوظيف معظمها في أمريكا من خلال شراء العقارات وأسهم الشركات والسندات الحكومية...... الخ.

هذه الاتفاقيات والإجراءات الناتجة عنها لم يستفد منها المواطن العربي العادي في هذه البلدان بل استفادت منها الطغمة الحاكمة المتكونة من نخبة الملوك والأمراء الفاسقين وحاشيتها الرذيلة، وكذلك الشركات الاحتكارية الأمريكية الكبرى المتعاقدة لتنفيذ مشاريع بناء تجميلية وأخرى استهلاكية وليست مشاريع صناعية إنتاجية وتطويرية متقدمة في هذه البلدان.

الدول العربية المنتجة للنفط المذكور أسمائها أعلاه تمتلك حوالي أربعة ترليونات من الدولارات الأمريكية محفوظة على شكل أوراق مالية في البنوك المركزية في أنحاء مختلفة من العالم، هذا المبلغ يشكل حوالي 70% من ممتلكاتهم، هذه المبالغ الضخمة لا تستخدم سياسيا أو اقتصاديا لفرض الإرادة العربية أو لاسترجاع الحقوق العربية المسلوبة لأنه وكما ذكرنا أعلاه أنها مقيد بقرارات اتفاقيات طويلة الأمد خصوصا مع الاحتكارات الأمريكية العالمية.

الاقتصاد الأمريكي رغم قوته وضخامة تأثيره على اقتصاديات العالم يبقى نمر من ورق لأنه يعتمد بالدرجة الأولى على قوة هيمنة الدولار في سوق العملات الورقية والتي بدورها تعتمد على الضخ المتواصل للمال الأجنبي المدان من الخارج في الصناعات الأمريكية. يقول الصحفي الأمريكي (مايك ويتني) في إحدى مقالاته المنشورة تحت عنوان "إنهاء استبداد الدولار" أن الدولار هو القلب النابض للإمبراطورية الاقتصادية الأمريكية، وأن أجهزة الإعلام والمؤسسات السياسية الأمريكية هي مجرد الروافد التي تتدفق من المركز، قوة هيمنة الدولار على باقي العملات الأجنبية الأخرى في التعاملات التجارية تعتمد على تجارة النفط، ولكنه في نفس الوقت، مؤمن بواسطة ديون خارجية مقدارها 8.3 ترليون دولار.

تدمير الهيمنة الأمريكية في العالم يمكن أن يحصل من خلال إضعاف هيمنة الدولار الذي سيؤدي إلى إضعاف الاقتصاد الأمريكي، والذي بدوره يعاني من عجز تجاري كبير جدا مقداره 800 مليار دولار في السنة. يمكن إضعاف قوة هيمنة الدولار إذا تحول التعامل في التجارة العالمية ومنها بالخصوص تجارة النفط من الدولار إلى عملات أخرى، وكذلك إذا حولت الدول العربية المنتجة للنفط جزءا من أوراقها المالية إلى عملات أخرى مثل اليورو.

سيكون لهذه الإجراءات تأثيرات فاجعة على الاقتصاد الأمريكي وهذا ما لا تسمح أمريكا بحدوثه. لذا فإنها جندت إضافة إلى قوتها العسكرية، استخباراتها وقواها السرية المخفية المتمثلة بالسفاك الاقتصادي وفرق الاغتيالات المتخصصة في خدمة هيمنة عملتها واقتصادها في بناء إمبراطوريتها الاقتصادية العالمية. مع هذا هناك محاولات من روسيا وفنزويلا وإيران وليس من دول الخليج العربي النفطية لكسر طوق هذه الهيمنة.

كما ذكرنا في إحدى مقالاتنا السابقة أن حوالي 90% من عائدات النفط النقدية للملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي تبقى في الولايات المتحدة وقسم منها في بنوك عالمية أخرى تابعة للدول الغربية واليابان.

هذه الأموال الضخمة تستخدم:

أولا: لخلق فرص عمل جديدة في تلك البلدان الصناعية الكبرى.

ثانيا: مساعدة مصانعها المتقدمة في الاستمرار في البحوث المدنية والعسكرية المتطورة،

ثالثا: لتأمين مستوى المعيشة العالي لشعوبها.

مردود أرباح هذا الاستثمار للأموال العربية لا يصل إلى المواطن العربي العادي في دول الخليج المنتجة للنفط بل يبقى متداولا في الدول الصناعية مربوطا بفقرات العقود المجحفة المتفق عليها - التي فرضها عليهم السفاك الاقتصادي- ويبقى تحت سيطرة أمريكا وهذه البلدان.

احتمال حصر هذه الأموال المودعة في أمريكا والدول الأخرى إلى الأبد أو استحواذها وتجريد الدول العربية من ممتلكاتها احتمال كبير، ولهذا فإن المملكة العربية السعودية وباقي الدول الخليجية تبقى في موقف مالي وسياسي ضعيف مهان ومشلول وفي النهاية أنها لا تمتلك القرار لاسترجاع أمولها أو إمكانية المطالبة بها إذا وقعت تحت رحمة الابتزاز المالي والسياسي الأمريكو-صهيوني.

نتائج الاتفاقيات التي سهل لتوقيعها السفاك الاقتصادي - بواسطة التهديد والوعيد وتوزيع الحلوى وفضائح صور دعارة ليالي الجنس الحمراء واحتساء الخمر ولعب القمار التي كان ومازال يمارسها نخاسة أمراء دول الخليج في أوربا وأمريكا – كانت فقدان العرب لأقوى سلاح اقتصادي ذو أبعاد سياسية وبهذا أصبحوا بدلا من أن يدافعوا عن حقوق الأمة المهدورة أخذوا يمررون المؤامرات الصهيو-أمريكية الدنيئة الواحدة تلو الأخرى على شعوبهم وعلى الأقطار العربية الأخرى.

من إفرزات هذه النتائج كانت:

أولا: زيارة الخائن أنور السادات إلى القدس وعقد اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني لأن مصر كانت تعتمد إلى حد كبير على المعونات المالية من السعودية ودول الخليج التي قلت بعد فقدان هذه الدول حجم مردوداتها المالية التي قيدت في البنوك والسندات الحكومية وأسهم الشركات الأمريكية.

ثانيا: التلاعب بأسعار النفط العالمية من خلال الضغط الأمريكي على السعودية ودول الخليج المصدرة للنفط برفع أو خفض الإنتاج حسب الحاجة السياسية الملحة التي تبتغي الولايات المتحدة فرضها على دول العالم ومنها الدول الخليجية المنتجة للنفط.

ثالثا: المساعدات والديون المالية التي حصل عليها العراق من دول الخليج أثناء حربه مع إيران استعملت بعد انتصاره في تلك الحرب لابتزازه سياسيا واقتصاديا، حيث أن الكويت تطبيقا لمخطط أسياد حكامها الخونة هددت ببيع سندات الديون في الأسواق العالمية لتدمير العراق سياسيا واقتصاديا وهذا ما أدى إلى إعادة ضمها إلى الوطن الأم.

أشعل استرجاع قصبة كاظمة إلى العراق وهرب حكامها العملاء حرب 1990-1991 التي شاركت فيها إضافة إلى الولايات المتحدة خمسة وثلاثون دولة أخرى منها دول عربية وإسلامية. تكاليف تلك الحرب دفعت من قبل الكويت والسعودية وباقي دول الخليج العميلة.

رابعا: تكاليف إبقاء الحصار الاقتصادي على العراق - الذي فرضته الأمم المتحدة بعد حرب 1991 والذي أدى إلى وفاة ما يقارب مليونين من الأبرياء العراقيين – دفعتها الكويت والسعودية بمشاركة دول الخليج الأخرى التي أعطت أيضا تسهيلات لاستخدام أراضيها وأجوائها لتدمير العراق.

خامسا: موارد النفط الخليجية استعملت للتآمر على العراق وتقويض نظامه الشرعي، حيث أن الكويت والسعودية مولت الأحزاب العراقية العميلة لأمريكا والكيان الصهيوني المسخ وبريطانيا وإيران بكل ما تحتاجه من سيولة نقدية ومعدات دعائية وتجسسية.

سادسا: موارد النفط الخليجية استعملت في تمويل حرب غزو العراق واحتلاله ونهبه وتدميره واغتصاب وإذلال شعبه. إضافة إلى جعل موارد النفط العربي في خدمة تمويل الاحتلال سهلت الكويت والسعودية وقطر والبحرين استعمال أراضيها وقواعدها الجوية لشن الحرب واحتلال العراق.

سابعا: الكويت والسعودية مازالت لحد الآن تمول الأحزاب العميلة وأن الأراضي الكويتية أصبحت ليس فقط كقاعدة للجيش الأمريكي بل قاعدة لتدريب ودخول وخروج الجواسيس والمرتزقة وفرق الموت من والى العراق.

ثامنا: موارد النفط العربي استعملت وتستعمل للضغط على السلطة الفلسطينية للقبول بإملاءات الكيان الصهيوني وكذلك استعملت لتدمير الصومال ولبنان واحتلال أفغانستان وبيع باكستان إلى الغرب. تاسعا، موارد النفط العربي استعملت ومازالت تستعمل بعد فقدان السيطرة عليها لتمرير المؤامرات الصهيو-أمريكية على الإسلام والمسلمين أينما وحيثما كانوا، ولولا هذا الضعف المزمن الذي نخر صلب الكيان العربي الإسلامي لما تجرأت إدارة بوش الصهيونية بإطلاق اصطلاح الإسلام الفاشستي، ولما تجرأ بابا الفاتيكان الصهيوني الحالي على التهجم على الإسلام، ولما كان رد الفعل العربي الإسلامي ضده بهذا الشكل المخزي والضعيف.

ختاما نود القول أن الموارد المالية والخيرات النفطية للدول العربية لم تستعمل لتطوير الإنسان العربي علميا وثقافيا وبناء قاعدة صناعية وعلمية صلبة تضمن بقاء حيوية الأمة العربية، بل استخدمت كسلاح وبشكل ذكي من قبل أمريكا وحليفتها الصهيونية لإضعاف وإذلال العرب والتهجم على الإسلام والمسلمين. إن الحل الوحيد لإنقاذ العرب من هذا الوضع المزري المخيف هو استرجاع سيطرتهم على ثرواتهم المالية والنفطية ومحاولة التخلص من الاعتماد الكلي على الدولار كعملة ورقية في التعامل التجاري.